كتب – هاني جريشة..
دراسة ألمانية ضخمة رصدت واقع الشباب العربي المؤلم حسب وصف الدراسة التي اجراها عدد من الباحثون الألمان في أكبر دراسة بحثية ألمانية من نوعها، مؤكدين أن واقع الشباب العربي مليئا بالمعاناة، ويُوصف بـ”جيل محروم” يرزح تحت وطأة أزمات مركبة، والدراسة رصدت قراءة تحليلية لملامح توجهات الشباب حول المستقبل والمصير الفردي والجماعي، كما كشفت أن هجرة الشباب العربي عن أوطانهم باتت الملاذ الوحيد لهم في الهروب من المعاناة التي يرزخ تحتها مؤخرا في بلادهم.
الدراسة التي أنجزتها مؤسسة “فريدريش إيبرت” الألمانية، تعتبر الأولى من نوعها عالميا من حيث الحجم والعمق وتنوع أبعاد المعالجة لأوضاع الشباب في العالم العربي ورؤى ملامح شخصياتهم الذاتية وتوقعاتهم بشأن فرص الحياة وآفاق المستقبل.
وتصدر الدراسة ككتاب عن دار النشر “ديتز” في بون (Verlag J.H.W. Dietz Nachf., Bonn) نهاية الشهر الحالي، وتقع في أكثر من 400 صفحة ومعها ملحق من سبعين صفحة يتضمن معلومات عن منهجية الأبحاث والاستطلاعات التي شملت 12 ألف شاب وشابة، تتراوح أعمارهم من 16 وحتى 30 عاما، في اثنى عشر بلدا من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث أجريت المقابلات سنتي 2021 و2022 في مصر والجزائر والعراق واليمن والأردن ولبنان وليبيا والمغرب وفلسطين والسودان وسوريا وتونس.
وتشمل الدراسة أربعة محاور رئيسية، أولها حول المفارقة بين أوضاع الحرمان، التي يعيشها الشباب في دول المنطقة والفرص القائمة أو المهدورة. وثانيها حول الأزمات المتعددة والمركبة التي يعيش في ظلها شباب دول المنطقة، ويركّز المحور الثالث على التوجهات الشخصية والتحولات في القيم الفردية والجماعية. أما المحور الرابع فيدور حول أنساق العلاقات الاجتماعية ومستوى الالتزام الاجتماعي للشباب ونظرته للمؤسسات ومدى ثقته فيها، وصولا إلى رصد تطلعاته وأحلامه على المستوى الشخصي والجماعي.
وشارك في الدراسة إحدى عشرة باحثة وباحث ألماني من تخصصات أكاديمية وحقول متعددة من مناهج العلوم الاجتماعية، كما تمت الاستفادة مما يزيد عن مائتي عنوان كتاب ودراسة لباحثين ومراكز دراسات ومؤسسات دولية، حول أوضاع الشباب في العالم العربي.
ويمزج مؤلفو الدراسة في أبحاثهم بين أدوات البحث التجريبي والواقعي لأوضاع الشباب الشخصية والمجتمعية والتحليل الموضوعي للظواهر والسياقات التي يعيشون فيها محليا وإقليميا. وهو ما يضفي على هذا العمل البحثي ثراءً في المعلومات والمعطيات عن تضاريس حياة الشباب في الدول العربية، مدعمة بعشرات الرسوم البيانية، ونظرة تحليلية معمقة لاتجاهات التطور في الأفكار والقيم والعلاقات في المجتمعات العربية.
وتتبع الدراسة عملا بحثيا سابقا كان بحجم أقل تم إنجازه في سنتي 2016 و2017، وهو ما يشكل أرضية مناسبة برأي المشرفين على الدراسة لإجراء مقارنات واستنتاج اتجاهات تطور الأوضاع في المجتمعات العربية.
وأنشئت مؤسسة فريدرش إيبرت قبل مائة عام وتُعد من أعرق المؤسسات الفكرية السياسية في ألمانيا، وتقوم على مبادئ”الديمقراطية الاجتماعية” وهي قريبة من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي يتزعم الائتلاف الحكومي الحالي في ألمانيا. ويشير القائمون على الدراسة إلى أنهم اعتمدوا في إنجازها على وسائل تمويل من وزارة التعاون الاقتصادي والتنمية الألمانية، التي تأتي ضمن كوكبة أكبر المؤسسات الحكومية المانحة لمساعدات التنمية في العالم.
حياة تحت وطأة أزمات متعددة
يرصد الباحثون الذين شاركوا في المحور الأول للدراسة تحولات عميقة، بدأت تجري في حياة الشباب وتوجهاتهم خلال العقدين الماضيين، بدءا بأحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 والغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، إذ أحدثت الواقعتان شرخا في العلاقة بين الغرب والعالم العربي، كما أثرت على نظرة جيل الشباب بالخصوص للأوضاع الداخلية في بلدانهم وانتشار التذمر والاحتجاجات ضد الأنظمة المستبدة في دول المنطقة والمعتمدة على الدعم الغربي.
ويركز مؤلفو الدراسة على سياق الأزمات والمتغيرات التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة، وضمنها الانتفاضات التي شهدتها الدول العربية في 2010/2011 والآمال التي أثارتها في جميع أنحاء العالم بشأن إرساء الديمقراطية في المنطقة، مع تسجيل تفاوت في سقف شعارات ودعوات التغيير بين مطالب الإصلاح مثلا في دول تحكمها أنظمة ملكية مثل البحرين والمغرب والأردن، وبين انتفاضات من أجل إسقاط أنظمة جمهورية مثل تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا.
وتوقفت الدراسة عند التطورات التي حدثت بعد موجة انتفاضات “الربيع العربي” وكيف أعقبتها انتكاسات مختلفة: رد الفعل الاستبدادي العنيف والأزمات الاقتصادية وتأثيرات أزمة المناخ، وجائحة كورونا، وأخيراً الحرب الروسية ضد أوكرانيا بتأثيرها على الأمن الغذائي والطاقة.
وفي تقييم مخاطر الأزمات وتداعياتها، يشخص الباحثون سبعة مظاهر أساسية للأزمات المؤثرة في حياة الشباب ونظرتهم الشخصية للمستقبل. وتأتي في مقدمتها جائحة كوفيد-19 وعواقبها، ونقص الإمدادات وانعدام الأمن والجوع التي ظهرت مع الجائحة وإبان الحرب الروسية على أوكرانيا، وثالثا أزمات اقتصادية على مستوى وطني، ورابعا سوء الإدارة في المؤسسات العامة، وخامسا: مواجهات مسلحة، وصولا إلى الأزمات البيئية والمناخية ومشاكل القيود المفروضة على حقوق الإنسان.
وتقدم الدراسة تحليلا لكيفية إدراك المراهقين والشباب لواقع الحياة في سياق كل هذه الأزمات. ومن وجهة نظر جيل الشباب، فهم محرومون من فرص الحياة المتساوية والمناسبة. ويرى المؤلفون أن هناك فجوة متزايدة بين “ما هو موجود” و”ما يمكن أن يكون ممكنا”. وبناء على ذلك، يصفون الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأنهم “جيل محروم”، حيث تسود خيبة الأمل والعجز.
مفاجآت في تضاريس أوضاع الشباب
تظهر قراءة نتائج الاستطلاعات التي أجريت في إطار الدراسة، عددا من المؤشرات حول أسباب مشاعر الخيبة والحرمان التي يعبر عنها الشباب في دول المنطقة بدرجات متفاوتة. مع الملاحظة بأن الدراسة لا تشمل دول الخليج العربية والتي تختلف أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية اختلافا كبيرا عن باقي دول المنطقة.
إذ تساهم الأزمات المتعاقبة في كشف الاختلالات البنيوية في النظام الاقتصادي والاجتماعي بدول المنطقة، ويتسبب ذلك في تداعيات مباشرة على أوضاع الشباب، وهو ما تبرزه الاستطلاعات التي أجريت. ورغم التفاوت النسبي في مدى عمق الأزمات والاختلالات في الدول التي شملتها الدراسة، إلا أن الملاحظ أن خصائص المعاناة لدى فئات الشباب مشتركة في مجملها.
ففي مؤشر درجة الرضا من عدمه لدى الشباب، تكشف الدراسة أن معدل عدم الرضا عن الحياة سواء من منظور فردي أو في سياق الوضع العام بالبلد، يتجاوز مجرد عامل محدد، سواء كان الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي أو الأزمات السياسية، بل يلاحظ أن عوامل مجتمعية متداخلة تشمل أبعادا ثقافية ونفسية تساهم في حالة عدم الرضا العام لدى الشباب في دول المنطقة مع وجود تفاوت نسبي. فمن أدنى معدل للرضا أي نقطة واحدة إلى أعلى درجة الرضا 10 نقاط، تظهر الدراسة أوضاع الشباب متفاوتة وفق أربع مجموعات:
مجموعة “عدم رضا كبير” وتشمل سوريا ولبنان واليمن والسودان، والملاحظ أن هذه الدول تشهد أزمات كبيرة ومركّبة ومزمنة.
وثمة مجموعة ثانية يشعر فيها الشباب بعدم رضا نسبي، وتشمل الأردن والجزائر وتونس وفلسطين، والملاحظ أن أوضاع هذه الدول متفاوتة من النواحي الاقتصادية والسياسية، لكن يمكن تفسير التقارب في ارتسامات الشباب عن أوضاعه في أن مستويات التعليم والتطور الاجتماعي متقاربة، كما يوجد تقارب في النظرة النقدية لدى الشباب إزاء طريقة تدبير الشأن العام في بلدانهم وسوء الإدارة بالمؤسسات العامة. وهو ما يظهر مرة أخرى أن العامل الاقتصادي ليس وحده ما يحدد نظرة الشباب. فالجزائر مثلا تعتبر بلدا غنيا جدا مقارنة بتونس أو الأردن، لكن تشترك مع البلدين في سوء إدارة الموارد والمؤسسات العامة.
أما المجموعة الثالثة، والتي يبدو فيها معدل الرضا متوسطا، فتضم العراق وليبيا، وتوجد عوامل تشابه كثيرة بين البلدين، سواء في ثرائهما بالموارد الطبيعية والطاقة، أو في الأزمات المعقدة والمزمنة التي يتخبط فيها البلدان، إضافة لسيطرة مجموعات هجينة تتشكل من قوى مدنية ومسلحة على الحكم.
وتعتبر المجموعة الرابعة مفاجأة الدراسة، إذ تضم المغرب ومصر، حيث تفيد الاستطلاعات بأن معدل الرضا مرتفع نسبيا، وهو الأعلى من ضمن الدول الاثنتى عشرة، التي شملتها الدراسة. ورغم أن البلدين يواجهان تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة بسبب عدم التوازن بين النمو الديموغرافي والموارد المتاحة، إلا أن نظرة الشباب تتسم بالرضا عن أوضاعهم الشخصية في سياق عام، ويمكن تفسير ذلك بالخصوص بالفرص المتاحة لتحسين أوضاعهم، بخلاف حالة اليأس والعجز التي تصيب الشباب في المجموعتين الأولى والثانية. ويعزز هذا الاستنتاج معدل الرضا المرتفع نسبيا عن الوضع الاقتصادي في البلدين والفرص والآفاق المتاحة للشباب فيهما.
منصف السليمي، صحفي متخصص بالشؤون المغاربية في مؤسسة دويتشه فيله الألمانيةمنصف السليمي، صحفي متخصص بالشؤون المغاربية في مؤسسة دويتشه فيله الألمانية
منصف السليمي، صحفي متخصص بالشؤون المغاربية في مؤسسة دويتشه فيله الألمانية
لكن المثير للقلق في البلدين هو ارتفاع مؤشر تفكك الطبقة الوسطى واتساع نسبة الفقر لدى الشرائح التي تتشكل منها تقليديا الطبقة الوسطى. مقابل زيادة ثراء الأغنياء واقتراب الشرائح الميسورة ضمن الطبقة الوسطى من فئات الطبقة الغنية.
ومقابل ارتفاع معدل عدم رضا الشباب، فإن أعلى مؤشر لزيادة شريحة الأغنياء يسجل في الجزائر، التي ما يزال نظامها الاقتصادي محكوما بقواعد شبه اشتراكية. كما يلاحظ أن البلد يسجل أعلى معدل لارتفاع نسبة الميسورين ضمن شرائح الطبقة الوسطى.
وتخصص الدراسة حيزا واسعا من البحث والتحليل لآليات تطور الطبقات الاجتماعية في دول المنطقة والعوامل التي تؤثر في هذا التطور وكيف يبدو مصير الشباب في سياقه.
مصادر الخوف من المستقبل
ترسم الدراسة خارطة لمظاهر الخوف من المستقبل لدى الشباب في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، ومصادره الأساسية كما يراها الشباب.
وتسجل أكبر نسبة مخاوف من المستقبل (تتجاوز النسبة 50 %) لدى الشباب في كل من سوريا ولبنان، وتليها نسبة بحوالي 30 في المائة لدى الشباب العراقيين والتونسيين. بينما يسجل معدل خوف كبير بنسبة حوالي 20 في المائة في مصر واليمن والأردن والسودان (الاستطلاع أجري قبل اندلاع الحرب الأهلية في هذا البلد). ولا تتجاوز نسبة الخوف الكبير من المستقبل 15 % لدى الشباب في الجزائر وفلسطين والمغرب وليبيا التي يسجل لدى شبابها أدنى معدل خوف من المستقبل إذ يبلغ 8% فقط.
وتسجل الدراسة أعلى نسبة اطمئنان على المستقبل لدى الشباب الليبيين والمغاربة. ويوجد معدل اطمئنان على المستقبل متوسط إلى ضعيف (20-30 %) في ثمان دول. بينما يسجل أدنى معدل اطمئنان على المستقبل لدى الشباب السوريين (5%) واللبنانيين (7%).
وحول مصادر الخوف من المستقبل لدى الشباب، يرصد الباحثون ثمانية عوامل أساسية لعدم شعور الشباب بالأمان في المستقبل، وتتقارب النسب بين العوامل الثمانية. وتتمثل في الوضع الاقتصادي والحالة الصحية والضغط النفسي والخوف من خطر مصدره العنف والقلق بشأن عدم الحصول على الغذاء والخوف على مستقبل العائلة والخوف من احتمال نشوب صراعات مسلحة، وصولا إلى القلق بشأن المسار المهني الشخصي.
وتكشف الدراسة أبعادً خطيرة لمدى عمق واتساع دوائر العنف الذي يتعرض له الشباب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في مستويات ضيقة مثل العائلة، والضغط النفسي والاستغلال الجنسي، وصولا إلى دوائر أوسع في المجتمع والدولة، مثل عنف السلطة أو قوى مؤثرة أو جماعات مسلحة. إضافة إلى الخوف من عنف بسبب السعي للسيطرة على الموارد الطبيعية مثل البترول والمعادن، مثلما ترصده الدراسة من مخاوف لدى الشباب الليبيين والسودانيين حتى قبل اندلاع الحرب الأهلية.
الرغبة في الهجرة أبعد من مجرد حاجة اقتصادية
ويمكن قراءة ترابط موضوعي في الدراسة بين الأبحاث الخاصة بنظرة الشباب والمخاوف التي تنتابهم إزاء المستقبل، والمؤشرات المتعلقة باتجاهات تنامي الهجرة لدى الشباب في دول المنطقة.
إذ تكشف نتائج الاستطلاعات التي أجريت لدى الشباب أن الاتجاه المتنامي للرغبة في الهجرة ليس فقط نتيجة لتدهور الأوضاع الاقتصادية والخوف على المستقبل المهني، بل أيضا هناك عوامل متعددة ومتداخلة، رغم الأهمية المركزية التي تحتلها قضايا الاقتصاد في تشكيل الواقع اليومي للشباب والأوضاع العامة في بلدانهم.
ويفيد البحث في العلاقة بين الرغبة في الهجرة ونمط الحياة والتوجهات القيمية لدى فئات الشباب، بأنه رغم تشابه أوضاعهم الاقتصادية ومدى الاستقرار المادي للعائلة، فإن معدل الرغبة في الهجرة يختلف بحسب نمط الحياة وتصورات الأفراد والمحيط الذي يعيش فيه الشاب أو الشابة.
إذ تسجل الدراسة أن ذوي التوجهات المحافظة والتقليدية ومن يوصفون بالمتمسكين بالأرض والمرتبطين بالموطن وخصوصا فئة الذين يتفادون المجازفة، هم أقل رغبة في الهجرة مقارنة بفئة الشباب الذين يحملون تصورات ليبرالية للحياة، وخصوصا الذين يميلون للتنقل والحركة كنمط للحياة.
ويرى الباحثون علاقة موضوعية بين شعور الشباب بالإقصاء والتهميش ونمو الرغبة لديه في الهجرة. ويأخذ الإقصاء أبعادا متعددة إجتماعية وثقافية وسياسية وليس فقط اقتصادية.
وحسب البلدان فإن الرغبة المؤكدة لدى الشباب في الهجرة لا تشهد نموا يذكر في مصر والمغرب، إذ لا يتجاوز معدل 5 في المائة، مقارنة بتونس ولبنان وسوريا، التي يتضاعف فيها معدل الرغبة المؤكدة في الهجرة ويقترب من نسبة 20 في المائة.
ويعتبر الأردن الاستثناء الوحيد من بين دول المنطقة التي شملتها الدراسة، الذي يُسجَل به تراجعٌ كبيرٌ في معدل الرغبة المؤكدة في الهجرة لدى الشباب، وهو ما يجد تفسيره في إحساس الشباب بأن لديه فرصا في بلاده وبأنه لا يشعر بدرجة إقصاء أو تهميش كبيرة.
كما يرصد الباحثون ظهور نوع من ثقافة “الاعتياد على الهجرة” لدى الشباب في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بيد أن الدراسة تسجل أيضا تحولا مهما في البلدان أو المناطق المقصودة لدى الشباب، اعتمادا على تجاربهم الشخصية في الهجرة. إذ تأتي دول الخليج العربي في المقدمة بنسبة 14 في المائة، مقابل 9 في المائة بأوروبا، وبنسبة 6 في المائة في آسيا، ونسبة 3 بالمائة في أمريكا الشمالية ودول جنوب الصحراء.
واللافت أن تجارب الشباب في الهجرة ترتبط بنسبة 68 في المائة منها بدول عربية أخرى. مع الملاحظة بأن نسبة تجارب الشباب المغاربي في أوروبا أعلى مقارنة بالشباب من دول الشرق الأوسط، الذين يقصدون دول الخليج بنسبة أكبر. بيد أن الدراسة تشير أن الهجرة المرتبطة بالتجمع العائلي مرتفعة (أكثر من 50 %) نحو دول الدول الأوروبية، مقابل 25 في المائة نحو دول الخليج ومعدلات أقل من 10 في المائة في مناطق أخرى.
ضعف الثقة في الدولة مقابل التزام اجتماعي أكبر
وتخصص الدراسة، التي أجرتها مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية، حيزا مهما من الأبحاث لرصد التحولات في نمط الحياة لدى الشباب وتصوراتهم إزاء قضايا الهوية والدين والعلاقات الاجتماعية ودور الأسرة وقضايا الجندر والمساواة بين المرأة والرجل، ثم دور التعليم وصولا إلى النظرة لمؤسسات الحكم. وتستأثر الأسرة بأكبر قدر من الثقة لدى الشباب، لكونها “مصدر سعادتهم” و”استقرارهم”، إذ تتراوح النسبة بين 80 إلى 90 في المائة.
لكن يلاحظ بالمقابل ارتفاع في معدلات الرغبة في الاستقلال المالي لدى الشبان والشابات، وتذبذب في آرائهم إزاء مسألة الارتباط من أجل الزواج. كما تسجل الدراسة ارتفاعا ملحوظا في اهتمام الشابات بالحصول على عمل “جيد” مقابل تراجع نسبي في رغبتهن في التركيز على الارتباط بشخص “جيد”.
ويمكن تفسير هذه المفارقات بالتحولات القيمية لدى الشباب، وهي قد تمهد لظهور رؤى جديدة للعلاقات الاجتماعية ولمفهوم الأسرة، مثلا بعد أن كانت الأسرة تعني دائرة واسعة من الأفراد والأقارب يمكن أن تصبح دائرة ضيقة. إضافة إلى تطورات باتجاهات متباينة تقليدية مستندة إلى الدين وأخرى باتجاه نظرة الشاب لنفسه ودوره وقيمه كفرد مقابل التصورات التقليدية التي تركز على وضعه داخل إطار قيم أو مؤسسات جماعية (أسرة أو قبيلة أو عشيرة).
ويرى الباحثون أن هذه التطورات المتباينة في تصورات الشباب تعني أن اتجاهات التغيّر القيمي والثقافي متوازية مع اتجاهات المحافظة والاستمرارية بالمجتمع. ففي ليبيا والمغرب مثلا يسجل أعلى معدل تمسك بالتدين (7,8 من 10) مقابل أدنى معدل (6 من 10) في كل من تونس ولبنان. مع الملاحظة بأن معدل التدين المصرح به من قبل الشباب الذين استطلعت آراؤهم متقاربة نسبيا في دول المنطقة.
ويبرز الباحثون أهمية متزايدة لوسائل الإعلام الحديثة والرقمنة في التأثير على توجهات الشباب ونظرتهم للحياة وللمستقبل، وتفاؤلهم بإمكانية الحصول على فرص أكبر، رغم هيمنة الشعور بالحرمان والخيبة لدى قطاعات واسعة من الشباب.
ويبدو أن الأزمات المتعاقبة في دول المنطقة وتداعياتها أفرزت تحولات عميقة في توجهات الشباب وتصوراتهم للحياة. فكما ساهمت الخيبات نتيجة فشل تجارب الانتقال الديمقراطي في دول “الربيع العربي”وردود الفعل الاستبدادية الشرسة، في انهيار “أسطورة” وحلم الديمقراطية لدى فئات واسعة من جيل للشباب الحالي، فإن ذلك ينعكس على مستوى الثقة في المؤسسات.
ويأتي معدل الثقة في الأسرة في الصدارة ويصل إلى 84 في المائة، ويليه 49 في المائة ثقة في العسكر و31 في المائة في الشرطة. ثم تأتي المؤسسات الأخرى في مراتب متقاربة مثل التعليم ومؤسسات المجتمع التقليدية (القبيلة) والدينية. ومعدل ثقة بحوالي 20 في المائة فقط للمؤسسات العامة مثل الصحة والعدالة وحقوق الإنسان والأمم المتحدة والمجتمع المدني وبدرجة أقل للإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.
بينما تأتي المؤسسات الحزبية والنقابية والبرلمان في أسفل سلّم الثقة (من 10 إلى 5 في المائة). ويمكن فهم ضعف الثقة في الأحزاب والبرلمان في تراجع الثقة بشكل عام لدى الشباب في المؤسسات التي ترمز للديمقراطية، مقابل صعود الثقة في مؤسسات الجيش والأمن التي تسيطر على الحكم في عدد كبير من الدول العربية.
ومن المفارقات أن نسبة الثقة المتدنية في الأحزاب هي بنفس الدرجة متقاسمة أيضا مع الميليشيات التي يسجل حضورها ودورها في الحياة العامة بعدد من الدول العربية (العراق، ليبيا، لبنان، السودان..).
كما يسجل الباحثون تضاؤلا كبيرا في اهتمام الشباب، الذين شاركوا في الاستطلاعات، بالسياسة وأن لديهم نسبة ثقة ضعيفة في معظم المؤسسات الحكومية، “لقد أصبحت أشكال الحكم الديمقراطية أقل جاذبية بشكل ملحوظ”، حسبما تسجل الدراسة.
ورغم تراجع الاهتمام بالسياسة وضعف الثقة الملحوظ في مؤسسات الدولة والأحزاب ترصد الدراسة تناميا في الرغبة الكبيرة لدى الشباب في الانخراط في المجتمع. إذ يصرح غالبية المشاركين في الاستطلاعات (78 في المائة) بأنهم يقومون بأعمال تطوعية. بينما الالتزام بالتغيير الاجتماعي والسياسي في المرتبة الأخيرة.
وعلى الرغم من خيبة الأمل العميقة بشأن التطورات الاقتصادية، فإن الذين شملهم الاستطلاع متفائلون للغاية. وبينما يتم فرض المطالب بالتأكيد على السياسيين والأجيال الأكبر سنا، فإن الشباب أيضا على استعداد لمعالجة الأمور بأنفسهم. أحد الأمثلة على ذلك هو التضامن المنظم بشكل عفوي في بداية جائحة كوفيد-19.
كما تسجل الدراسة تطورا ملحوظا في المبادرات والالتزام الشخصي أو التطوع في القضايا المرتبطة بالبيئة، وهو ما يجسد تناميا ملحوظا في الوعي لدى الشباب بقضايا التغيرات المناخية، مع وجود تفاوت بين دول المنطقة، حيث تسجل أعلى معدلات التزام اجتماعي ومبادرات بيئية في لبنان، وتليها السودان والعراق، ثم باقي دول المنطقة.